ما بعد النفط والبيانات: كيف سيُصبح الماء العامل الحاسم في تشكيل السياسات والاقتصادات خلال القرن الحادي والعشرين
بقلم: أحمد بن سليم، الرئيس التنفيذي الأول والمدير التنفيذي لمركز دبي للسلع المتعددة
يتحوّل الماء بخطى متسارعة إلى السلعة الأهم في القرن الحادي والعشرين. ليس النفط، ولا البيانات، بل الماء، فهذا المورد الحيوي، الذي لا غنى عنه للحياة والزراعة والصناعة، يكتسب يوماً بعد يوم مكانة استراتيجية وقيمة اقتصادية تفوق تلك التي حظيت بها الموارد التقليدية.
ويشهد الطلب على المياه ارتفاعاً غير مسبوق، مدفوعاً بتوسّع المدن واحتياجات الصناعات الحديثة مثل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، وتصنيع أشباه الموصلات، وإنتاج الهيدروجين الأخضر، وكلها صناعات تستهلك كميات هائلة من المياه. ومع هذا الضغط المتزايد على مصادر المياه العذبة، لم يعد هذا المورد الحيوي متاحاً كما كان في الماضي، بل أصبح أصلاً نادراً، يخضع للمضاربة، كما يُعدّ مصدراً متزايداً للتوترات الجيوسياسية.
الدور العالمي المتنامي لدولة الإمارات
في ذات الوقت، تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة ترسيخ مكانتها كواحدة من أبرز الدول الرائدة عالمياً في مجال حلول المياه من خلال استثمارات ضخمة في تجميع مياه الأمطار، وإعادة استخدام المياه بطريقة مبتكرة، بالإضافة إلى تقنيات التحلية المتقدمة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك محطة "الطويلة" في أبو ظبي، التي تعتبر أكبر محطة تحلية في العالم تعمل بتقنية التناضح العكسي، وبطاقة إنتاجية تصل إلى 900,000 متر مكعب من المياه يومياً تكفي لتلبية احتياجات مليون شخص.
ولا تقتصر ريادة دولة الإمارات في مجال حلول المياه على حدودها الجغرافية، بل تمتدّ لتشمل مبادرات رائدة على المستوى الدولي، من خلال إبرام صفقات "الطاقة مقابل المياه" مع شركاء تجاريين مثل الصين، والأردن، وإسرائيل. وتقوم هذه الصفقات على مبدأ تبادل الأصول أو الدعم في قطاع الطاقة مقابل الحصول على موارد مائية أو خدمات متعلقة بها، مما يتيح للدول الغنية بالطاقة تعزيز أمنها المائي، بينما توفر في المقابل الطاقة للدول الغنية بالمياه.
على الصعيد العالمي، حققت دولة الإمارات خطوات ملموسة نحو ترسيخ مكانة المياه كأولوية عالمية. ففي مؤتمر الأطراف COP28، قادت الإمارات اتفاقاً تاريخياً يعترف صراحةً بالدور المحوري للمياه في التكيف مع تغير المناخ. كما خصصت الدولة 150 مليون دولار أمريكي عبر "مبادرة محمد بن زايد للمياه" لدعم التقنيات المبتكرة في هذا المجال، وتستعد كذلك لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في عام 2026.
وفي ظل تكثيف الجهود العالمية للتعامل مع ندرة المياه وتأثيراتها على الأمن، آن الأوان لأن تنظر جميع الدول إلى المياه كأصل استراتيجي لا يقل أهمية عن السلع الاستراتيجية الأخرى، ويشكّل محركاً رئيسياً للاستدامة العالمية وحلول المناخ.
الحاجة إلى سوق مائي شفاف ومحايد وقائم على أسس قانونية واضحة
مع تفاقم حدة ندرة المياه، التي أثرت العام الماضي على نحو نصف سكان العالم، تزداد الحاجة إلى آليات تنظيمية عادلة لإدارة هذا المورد الحيوي. فغياب الأطر القانونية والشفافية في تقاسم المياه أصبح يعكس نفسه في توترات جيوسياسية حادة، كما هو الحال في حوض نهر النيل، حيث أدى الصراع على الحقوق المائية بين مصر وإثيوبيا والسودان إلى أزمات دبلوماسية متكررة. وتشهد مناطق أخرى توترات مشابهة، مثل نهر كولورادو في أمريكا الشمالية، ودلتا ميكونغ في جنوب شرق آسيا، ومؤخراً بين باكستان والهند، حيث تتفاقم النزاعات حول الموارد المائية بسبب الضغوط المتزايدة على هذه المصادر الحيوية.
مثلما حصل مع قطاع الطاقة، أصبحت قضية المياه محاطة بالسياسة، لكن على عكس النفط أو الغاز، لا توجد حتى الآن أسواق ناضجة لإدارة هذه التوترات والحدّ منها، فغياب أُطر تداول موحدة، وآليات تسعير شفافة، وهياكل حوكمة قابلة للتنفيذ يجعل المياه عرضة للتجزئة والصراعات. وفي حين أن حقول النفط في أنحاء العالم تخضع لحماية مشددة، يُترك أهم مورد طبيعي عرضة للإهمال والتقليل من قيمته، ودون حماية كافية. وبغياب تقدير لقيمته، يُعامل الماء كمورد لا نهاية له، مما يؤدي إلى الهدر، وسوء الإدارة، وعدم المساواة في التوزيع، وتثبيط جهود الابتكار في مجال الحفاظ عليه، والحؤول دون جذب الاستثمارات من القطاع الخاص.
هنا يأتي دور التجارة والخدمات اللوجستية العالمية، ليس لتحويل المياه إلى سلعة من أجل الربح فقط، بل لتنظيم تخصيصها بشفافية وحيادية وهيكلية واضحة. ومن خلال الاعتراف بأن المياه تشكل فئة أصول ذات قيمة اقتصادية ملموسة، يمكننا تحويلها إلى ضمانات مالية لتمكين إطلاق رؤوس الأموال اللازمة للبنية التحتية المستدامة للمياه، والتخزين، والحفاظ عليها، والابتكار في هذا المجال. ومع ذلك، لا تقتصر الحلول على البنية المالية فقط؛ فالبنية التحتية المادية، وخصوصاً الخدمات اللوجستية ضرورية أيضاً. وتعتمد فعالية التجارة العالمية للمياه على القدرة على نقل كميات كبيرة منها بكفاءة وتكلفة معقولة. وبينما تتوزع معظم المياه العذبة بشكل جغرافي محدود، يكمن التحدي في إيصالها إلى المناطق التي تعاني ندرة شديدة. تمثل الحلول اللوجستية المبتكرة، بما في ذلك النقل البحري على نطاق واسع، خطوة كبيرة نحو تحقيق ذلك، إلا أن الشراكات الفعالة على الأرض لاستقبال وتخزين وتوزيع المياه تبقى أساساً لا غنى عنه، فبدون هذا الدعم اللوجستي، ستظل حتى أفضل نماذج تداول المياه غير كافية.
من جهة أخرى، تبرز التقنيات الحديثة التي تتيح إنتاج المياه عبر استغلال رطوبة الجو، مثل شركة "هوانا ووتر" التي تعمل في المنطقة الحرة لمركز دبي للسلع المتعددة، كحلول واعدة بكفاءة عالية وحجم إنتاج كبير. علاوة على ذلك، تلعب التكنولوجيا دوراً متزايد الأهمية في تعديل خصائص المياه لتلبية احتياجات مختلفة. على سبيل المثال، تعمل شركة "كانجن ووتر" بالتعاون مع "إيناجيك" على إنتاج مياه قلوية غنية بالهيدروجين باستخدام تقنيات تأيّن (ionizing) حاصلة على براءة اختراع، بهدف تحسين الصحة من خلال خصائص مضادة للأكسدة.
دبي – العاصمة المستقبلية للتجارة العالمية في المياه
ينبغي أن تُطبّق على المياه نفس المبادئ التي تحكم تجارة الذهب والماس والنفط. ومن هذا المنطلق، فإننا نعمل على إنشاء مركز المياه التابع لمركز دبي للسلع المتعددة، وهو منظومة بيئية متكاملة تدعم الشركات المتخصصة في قطاع المياه، وتُعزّز الابتكار والتقنيات المستدامة، وتُشجّع تبادل المعرفة والتعليم. وسيُصبح مركز المياه مركزاً إقليمياً رائداً يجمع بين رواد قطاع إدارة المياه، من مطوري تقنيات المياه إلى مزودي خدمات النقل واللوجستيات.
من هذا المنطلق، نفتخر بتوقيع اتفاقية تاريخية مع شركة “فريش ووتر” النرويجية، تضمن توريد مليار لتر من مياه الشرب الطبيعية إلى دبي سنوياً على مدار الخمسين عاماً القادمة. كما نعمل على إقامة شراكة استراتيجية مع شركة "أكوا إندكس"، التي يُعتبر مؤسسها، يعقوب شيرازي، من رواد توكن(token) المياه الأوائل، وأحد أبرز مناصري الشفافية العالمية في هذا القطاع.
كمركز عالمي للسلع، يوفّر مركز دبي للسلع المتعددة بيئة محايدة ومنظمة تجارياً تتيح للجهات الدولية التعاون والابتكار والإنتاج بثقة، وهو أمر حيوي في ظل تصاعد الخلافات القانونية المتعلقة بالمياه.
لا يمكن للعالم أن يسمح بأن تتحول المياه إلى سبب في الانقسامات، بل يجب أن تكون عاملاً محفزاً للتعاون الدولي. وفي هذا السياق، يمتلك مركز المياه التابع لمركز دبي للسلع المتعددة القدرة على أن يكون وسيطاً محايداً للتنمية والتجارة والتقدم، مع العمل على مواجهة أحد أهم التحديات الإنسانية، والذي يتمثل في ضمان حق الجميع في المياه النظيفة وليس اعتبارها امتيازاً للبعض.